الأحد، 27 فبراير 2011

الثورة الشعبية العربية الى أين ؟ - الدكتور أبراهيم علوش




الناس يرون ما هو ماثل أمامهم. فلا نملك أن نلومهم إن ثاروا ضد الفساد والاستبداد، أو ربطوا ما بين هاتين الظاهرتين وما بين أشخاص معينين، لا نظام بأكمله، لأن ربط العوارض بالجذور، وتفسير شبكة العلاقات بين الظاهر والباطن، بين هذا الحاكم والطبقة الاجتماعية التي يمثلها، وبين الفساد والاستبداد من جهة والتبعية للخارج والتجزئة العربية والعلاقة مع العدو الصهيوني والإمبريالية الأمريكية من جهة أخرى، هو مهمة الطليعة السياسية والمثقفين الثوريين.
فإن عجزت الطليعة عن القيام بدورها، سواء بسبب قصور منها، بسبب انخفاض سقفها أو عزلتها عن الناس، أو بسبب قدرة الأنظمة والقوى المضادة على تعطيل دورها وتأثيرها، فإن ما يبقى أمام الناس هو ما يرونه مباشرةً، أي الفساد والاستبداد، وهو القصور الذي يهدد بإعادة إنتاج الأنظمة السابقة تحت عناوين جديدة، لأن الثورة لم تذهب إلى أقصى مداها في تفكيك بنى التبعية والتجزئة ومؤسساتها. فتغيير واجهات النظام لا يعني كثيراً، ولا يسقِط منظومة التبعية ولا الفساد ولا الاستبداد، خاصة أن الحكام بالنسبة للغرب مجرد أذناب. وكما قال الشاعر:

لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها إن كنت شهماً ألحِق رأسها الذنبا

في مصر، الرئيس “المتنحي” لا يزال على اتصال مع الحكومة التي عينها، ووزير الدفاع الذي عينه ذلك “المتنحي” هو من يحكم البلاد فعلياً! وقيادات الجيش كانت على علاقة وطيدة بالجيش الأمريكي، على مدى عقود، وقد أكدت قيادات الجيش على التزامها بمعاهدة كامب ديفيد المشؤومة، الخ… مما بات يتداوله الحريصون على الثورة الشعبية في مصر… وهو صحيح للأسف… ويثير الهواجس بالفعل. ولا تختلف حال تونس فيه كثيراً عن مصر. ونخشى أن لا تختلف الحال في أي بلد عربي تقوم فيه ثورة لا تتحلى بقيادة ثورية تمتلك برنامجاً ثورياً بكل معنى الكلمة تتبناه الجماهير.
ولكن، تعالوا نتدارس ما حدث من منظور النشطاء السياسيين: تخيل أنك دعوت لاحتجاج شعبي في دولة عربية ما، وتخيل أنك خلال السنوات الماضية كان يأتيك بضع مئات أو بضع آلاف فحسب عندما تدعو لمثل ذلك الاحتجاج، ولكن هذه المرة بالذات، أتتك بضعة ملايين من الناس أكثر من المتوقع.. واصطدموا بأعداء الشعب، وشرعوا بالقيام بما كنت تدعو له وتحلم به منذ تفتحت عيونك على الوطن… لقد كنت تدعوهم من قبل، ولكنك قبل الأوان، أو بعد فواته. لكن هذه المرة، صدف أنك قرعت الجرس بالضبط بعدما فاض الكيل وأصبح الموت أسهل من تقبل الأمر الواقع.
إنها اللحظة المناسبة، اللحظة الثورية، سوى أنها تفتقد لقيادة ثورية وبرنامج ثوري تقود الحراك إلى بر الأمان وتمنع إجهاضه أو تسلق الانتهازيين فوق ظهره. فالأنظمة عطلت كل شيء، أو أن الثوريين تراخوا… فذلك لا يهم الآن. لأنك لا يمكن أن تدعو الناس للعودة إلى المنزل ريثما تتشكل طليعة ثورية، وريثما تقنع تلك الطليعةُ الجماهيرَ ببرنامج ثوري حقيقي يتجاوز التغيير التجميلي الشكلي (من نوع “نفي” مبارك إلى منتجع شرم الشيخ)! فماذا أنت فاعلٌ الآن؟! إنك لا تملك إلا أن تستغل اللحظة للحد الأقصى وأن تدفع بها إلى نهاياتها المنطقية، إلى الثورة الشعبية… فأنت لا تفصّل الثورات على مزاجك في مختبر معقم، بل عليك أن تبنيها بصبر بالمدخلات المتاحة وأنت تقف في الوحل والدم في عاصفة المخاض.
بالرغم من كل شيء، تبقى تعلل النفس أن الناس تعلموا أنهم قوة، وأن المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات تزلزل الأرض وليست “بلا فائدة” كما زعموا، وتعلموا أننا إذا نزلنا إلى الشارع قلة، فإننا نعاقَب، وأننا إذا نزلنا كثرة، فإننا نعاقِب، ولكن القلة هي مفتاح الكثرة… ونبقى نعلل النفس أن الثورة ضد الفساد والاستبداد ربما تتيح هامشاً ما لتشكل وتفعيل طليعة سياسية وثقافية معارِضة حقيقية، ونعلل النفس أن الناس متى تعودوا النزول للشارع وإسقاط الحكام، فإنهم لن يصبروا على الضيم طويلاً في المستقبل، ولكن ليست هناك أية ضمانات لعدم مصادرة الثورة واختراقها بالطبع، فالأنظمة الغربية التي تحكمها اليوم شركات كبرى واوليغاركية (حكم شريحة كبار الأغنياء) مستحكمة قامت بالأساس على ثورات شعبية.
لقد نزلتَ إلى الشارع، بدون قوة منظمة تقود الحراك، بلا جيش أو سلاح، وهزمتَ أعتى الأجهزة الأمنية وأشرسها: الأجهزة الأمنية العربية، فوجدت نفسك تقف وجهاً لوجه أمام الجيش. الجيش من الشعب في قواعده، ولكن لو انقلبت قيادة الجيش على الثورة الشعبية غير المسلحة وغير المنظمة فإنها يمكن أن تغرقها في برك الدم. ولا يزال هناك مئات المختفين في عهدة الجيش المصري بالمناسبة، وليس صحيحاً أنه كان رائعاً أو أنه لم يمارس القمع أبداً، أو أن قيادته غير مرتبطة بقوى الهيمنة الخارجية، أو أنه اصطف مع الشعب… لكن تحييده كان ضرورة موضوعية في ظل الانتفاضة العفوية الشعبية السلمية التي انطلقت في تونس ومصر. فكان الإبداع الشعبي في تجميد التناقض مع الجيش، واستيعاب تجاوزاته، وتقديم التنازلات اللازمة لذلك، دون أن يعني ذلك على الإطلاق أننا نتعامل مع انقلاب ثوري مثلاً على نمط انقلاب 23 يوليو 1952. وهذا أفضل ما يمكن أن تحصل عليه ضمن الظرف المتاح دون إغراق الثورة بالدم، ولكنه لا يعني على الإطلاق أن قيادة الجيش المصري (والتونسي) شرعت فوراً بالعمل على إعادة السلطة من الشارع لطبقة الكمبرادور التي حكم مبارك وبن علي باسمها (وقد سبق أن تطرقنا لحكم الكمبرادور في مقالة “ثورة ياسمين ديموقراطية أم انتفاضة شعبية؟”).
وما دمنا في سيرة المخاطر المحيطة بالثورة الشعبية العربية، لا بد من التنبيه من الحركات الانفصالية أو المخترقة للخارج الملتبسة كثورات شعبية. فالثورة الشعبية ليست حركة انفصالية، ولا الحركة الانفصالية ثورة شعبية. والتهجم على العروبة وعلى “تجنيس العرب” ليس ثورة شعبية بل اختراق أجنبي. ولقد كان من ميزات مصر مثلاً أن حراكها الشعبي كان إسلامياً قبطياً بلا فواصل، وهو ما أعطاه بعداً وطنياً حقيقياً، بغض النظر عن النسبة العددية للأقباط من المصريين، فالأساس هنا هو النوع وليس الكم، واقتناع المسيحيين بالحراك أعطاه زخماً يتجاوز عددهم داخل ميدان التحرير وخارجه، وهو النموذج المتجاوز للطائفية الذي يجب أن نتمسك به.
وكذلك عندما نرى السنة والشيعة في البحرين يتحركون معاً، وعندما يصبح الحراك الشعبي في البحرين متجاوزاً للطائفية، ومقنعاً للسنة، فإنه سيصبح أكثر مصداقية في الشارع العربي، وللبحرينيين أنفسهم. وعندما يصبح الحراك الجنوبي في اليمن حراكاً مشتركاً مع باقي اليمنيين لإسقاط النظام وليس لتفكيك البلاد، فإنه سيكتسب مصداقية ما برحت تنقصه كثيراً في الشارع العربي، وعندما نجد صيغة تمكننا من تجاوز الشق الأردني-الفلسطيني في الأردن، سيصبح التغيير في الأردن قاب قوسين أو أدنى… دون أدنى ريب.
أخيراً، لا يمكن لأي عاقل أو إنسان حر إلا أن يدين بأقوى لهجة ممكنة إطلاق النار على المدنيين في المدن والبلدات الليبية، ولكن يا حبذا لو كف المتظاهرون هناك عن التلويح بعلم الحكم السنوسي الذي يذكر بمرحلة كانت فيها ليبيا دولة شبه مستعمرة تابعة للولايات المتحدة، فذلك بدوره يقبض القلب ولا يبشر بالخير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون