الخميس، 24 فبراير 2011

الشعب الفلسطيني يريد إسقاط الانقسام: بقلم السيد صقر ابو فخر

يقال إن مصر مثل نيلها، تبدو هادئة وبطيئة عند السطح، لكن اعماقها تغلي بالغضب المكتوم كالمرجل. وعندما يفور غضب المجتمع تصبح مصر هادرة كفيضان النيل، وتطيح كل ما يقف أمامها. غير ان ركود العالم العربي طوال المرحلة التي أعقبت موت جمال عبد الناصر ومحاولة القضاء على الثورة الفلسطينية في الأردن سنة 1970، علاوة على الحقبة المهينة التي أسسها أنور السادات منذ سنة 1971 فصاعداً، جعلنا، ذلك كله لا نصدق مصر ونيلها والغضب الكامن في أرجائها، وغشيت عيوننا عن اكتشاف ما تخفيه الحناجر والأفئدة والعقول، بل انغمسنا في كلام يائس وتاعس على خمول الشعوب واستنكافها عن النهوض الى العلم والتصدي للظلم، وكثيراً ما اتهمناها بالخنوع والذل والرثاثة.
مصر اليوم لا تحتاج الى اي برهان على ان الوقائع جاءت على خلاف ما توقعنا، وأن ما جرى في ميدان التحرير بالقاهرة، وفي ميدان القائد ابراهيم بالاسكندرية وفي غيرها من المدن المصرية المنتشية بالأمل، نبهنا على اننا لم نكن نرى ما يجري حقاً في شرايين المجتمع. ولعل هنا، بالذات، تكمن خيبة المثقفين الذين فشلوا في اكتشاف مجريات الأمور وكيف تجري حقاً.
إن ثورة مصر اليوم تستعيد رائحة تاريخ القريب بكل بهائه: من ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الانكليزي في سنة 1882، الى الثورة الوطنية في سنة 1919 التي قادها سعد زغلول ورفاقه، فإلى معارك القناة التي اندلعت في 25 كانون الثاني 1952 (تماماً في يوم اندلاع الثورة الآن)، صعوداً الى ثورة الضباط الأحرار في 23 تموز 1952، والى معارك السويس في سنة 1956 التي شارك فيها ياسر عرفات، واكتسب منها خبرة عسكرية مهمة، ونال لقب "ضابط احتياط" في الجيش المصري.
أعادت ثورة مصر الينا صدى اضرابات الطلبة في سنة 1972 ومعها أشعار أحمد فؤاد نجم وصوت الشيخ امام عيسى، وحكايات النضال الطبقي الذي قاده عمال حلوان والمحلة الكبرى في سنة 1975، وانتفاضة 18 و 19 كانون الثاني 1977 التي دامت ثلاثة ايام متواصلة قُتل فيها آنذاك نحو مئة من أبناء مصر، وجرح المئات، وأودع الآلاف في السجون. وكان ذلك كله خطوات على الطريق، وتمريناً على ما كان لا بد من وقوعه في 25 كانون الثاني 2011.
إن ثورة مصر تعيد ربط حبل السُرّة المصري بتاريخ العرب الحديث، وتستعيد عطر أبطال التحرر الوطني أمثال أحمد عرابي وعبد الكريم الخطابي وعمر المختار وعز الدين القسام وسلطان الأطرش وجمال عبد الناصر وأحمد بن بلّة وياسر عرفات وخليل الوزير وجورج حبش وغيرهم.
ان ثورة مصر هي، وفي مضمونها، انتقام تاريخي عظيم من أنور السادات الذي كرس عصر الصلح المنفرد مع اسرائيل، ودشّن حقبة القطيعة مع القضية الفلسطينية. واليوم يقوم الشعب المصري بدفن هذه الحقبة وإهالة الركام عليها. لقد انتهت حقبة كامب دايفيد التي عاشت اثنتين وثلاثين سنة. وحتى لو بقيت نصوص معاهدة السلام المصرية – الاسرائيلية سارية، فإنها ستتحول، بالتدريج، الى سلام ميت.
كان لنظام حسني مبارك وظيفة محددة هي حماية أمن اسرائيل من الجنوب بذريعة حماية أمن مصر من الشمال، وفوق ذلك التعاون الاقليمي مع الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل لمحاربة القوى السياسية المناوئة للولايات المتحدة في المنطقة العربية. لنتذكر دور حسني مبارك في مساعدة اميركا تهيئة الوضع العربي لخدمتها إبان حربها على العراق في سنة 1990، وكيف استعجل مؤتمر القمة العربية الطارئة آنذاك لاتخاذ موقف ضد العراق في سبيل تسهيل الغزو الاميركي، وكيف اساء ايضاً الى موقف منظمة التحرير الفلسطينية الرافض لاحتلال الكويت، والرافض في الوقت نفسه للحرب الاميركية على العراق، فصور ذلك كأنه تأييد فلسطيني لاحتلال الامارة النفطية، الامر الذي أدى الى محاصرة المنظمة وقطع المعونات عنها، وطرد آلاف الفلسطينيين من الكويت ودول الخليج العربي الاخرى.
في عهد أنور السادات، ثم في عهد حسني مبارك، تحولت مصر من حائط دعم أو جدار استناد للقضية الفلسطينية، كما كانت عليه الحال في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الى وسيط مع اسرائيل أحياناً، والى أداة ضغط لاستدراج منظمة التحرير الفلسطينية الى تقديم تنازلات لاسرائيل في أحيان اخرى. وفي عهد حسني مبارك بالتحديد صارت قضية فلسطين مجرد ملف بين يدي اللواء عمر سليمان، أي انها باتت "قضية أمن" لا قضية مركزية للعرب، أو قضية تحرر وطني. واتفاقية السلام المصرية – الاسرائيلية التي وقعها أنور السادات في سنة 1979 حرمت مصر من معظم مظاهر السيادة على سيناء، بعد ان أخرجتها من منظومة الصراع العربي – الاسرائيلي، وهذا ثمن باهظ جداً، فقد فرضت قيوداً على انتشار الجيش المصري في أرضه، وسلّمت هذه المهمة الى قوات المراقبة الدولية، وتركت للمصريين الشؤون اليومية التي تتولاها الشرطة، ثم أرغمت مصر على بيع اسرائيل الغاز بأسعار تافهة، في الوقت الذي تحتاج مصر فيه الى كل قرش لتخطي اوضاعها الاقتصادية المهينة. وجل ما نالته مصر هو المعونة المالية الاميركية لا غير. مهما يكن الأمر فإن اسرائيل تقف اليوم ذاهلة امام الثورة المصرية، وهي ترى فيها تهديداً استراتيجياً لها، وستسعى، إن لم تستطع المحافظة على معاهدة السلام بتفصيلاتها كلها، الى تقليص الاضرار الاستراتيجية الناجمة عن هذا التحول. وما تريده اسرائيل، في نهاية المطاف، هو ضمان أمنها في الجنوب، واستمرار تدفق الغاز المصري على محطاتها، وتفعيل التعاون الامني، ولا سيما في الشأن الفلسطيني، ومتابعة التعاون الاقليمي، وخصوصاً في الشأن العراقي واللبناني.
هل تعيد مصر، من خضم هذه التحولات الصاخبة، النظر في بنود هذه الاتفاقية صوناً للسيادة الوطنية المهدورة وللكرامة المصرية المثلومة؟ ربما، لكن ليس سريعاً، بل بطريقة متدرجة. وكان من اللافت ان السفارة الاسرائيلية في القاهرة لم تصب بأي خدش في أثناء الثورة، ولم يكسر فيها أي زجاج في أقل تقدير. ثم ان البيان الثاني، للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية اعلن التزامه الاتفاقات الدولية والاقليمية، وكان يقصد، بالتحديد، معاهدة السلام مع اسرائيل. ولعله اراد من اعلانه ذاك تطمين الولايات المتحدة واسرائيل في هذه المرحلة، ثم النظر، لاحقاً، في تطورات الاحوال كي يبني على الشيء مقتضاه. ومن المتوقع، على المدى المتوسط، أن تتخذ مصر الخطوات التالية.
1- تمويت معاهدة السلام المصرية – الاسرائيلية، وتحويل نصوصها الى سلام ميت.
2- إسقاط ورقة حصار قطاع غزة وإمداد السكان بالكهرباء والوقود والمواد التموينية.
3- فتح المعابر بين مصر وقطاع غزة بصورة دائمة، وجعل الدخول الى غزة والخروج منها حراً بحسب الأنظمة السارية.
أن ما تخشاه اسرائيل من الثورة المصرية وتفاعلاتها هو ان تتحول خسارتها رصيداً في جعبة منظمة التحرير الفلسطينية، اي ان تعود القضية الفلسطينية، في العهد الجديد، لتصبح شأناً مصرياً، لا ملفاً أمنياً يدور في نطاق معبر رفح. ولا ريب في ان الثورة المصرية ستكون لها نتائج ايجابية على القضية الفلسطينية. غير ان ذلك لن ينعكس بالضرورة لمصلحة السلطة الفلسطينية مباشرة (او حتى لمصلحة حماس). لكن التغيير في موازين القوى الذي لن يظهر قريباً في اي حال، يدعونا الى اعادة النظر في طريقة التفاوض مع اسرائيل، وفي طرائق جديدة للمقاومة معاً. ولعلها فرصة سانحة اليوم لاعادة حركة حماس نفسها النظر في الوقائع المتبدلة. فإما ان تعتقد حماس واهمة ان ما جرى يضيف اوراقاً اليها فتزداد عناداً، أو تستجيب لهذه المتغيرات وتتقدم نحو انهاء الانقسام الاقليمي والسياسي، وتلغي نتائج ما فعلته في 14/6/2007.
ستكون مصر منشغلة، في المرحلة المقبلة بتنظيم الانتقال المتدرج نحو نظام سياسي جديد، وليس من المتوقع ان يكون لمصر، في هذه المرحلة الانتقالية شأن مهم في القضايا العربية المحتدمة، وبالتحديد في القضية الفلسطينية. والمفاوض الفلسطيني ربما يفقد سنداً تقليدياً، مع أن المفاوضات متوقفة، وليس هناك من يفاوض، غير ان ذلك لن يطول كثيراً حتى تعود مصر الى موقعها المركزي العربي. لذلك، ثمة فرصة لإعادة التأمل في مصير التسوية المجهضة وفي أحوال الشعب الفلسطيني نفسه، ولا سيما ان المنطقة العربية برمتها، من المغرب العربي الى المشرق العربي تتحرك فيها خمائر التغيير المختلفة، بما فيها السلبية بالطبع، وهي مرشحة لتغيرات مؤكدة بهذا المقدار او ذلك مثل ليبيا واليمن والبحرين بالدرجة الاولى، والجزائر والسودان بالدرجة الثانية. والوضع الفلسطيني ليس بمنأى عن التأثر بهذه المتغيرات على الاطلاق.
لقد انتهت "الورقة المصرية" بذهاب نظام حسني مبارك. فهل نتنبّه مجدداً الى صوغ "ورقة فلسطينية" للخروج من هذه الاحوال العقيمة؟ واذا كان من الضروري قراءة البرنامج السياسي لحركة فتح الذي أقره المؤتمر العام السادس سنة 2009 في ضوء ما يجري اليوم في العالم العربي، وفي ضوء استعصاء المفاوضات مع اسرائيل، فإن الحدث المصري الذي تجلى في ميدان التحرير بالقاهرة قدم الينا طرازاً نادراً من التآلف الوطني، ومثالا رفيعاً وراقياً لمعنى الغاء العصبيات الدينية والجهوية. أما الفلسطينيون الذين كانوا رواداً في الإندماج الوطني، والذين طالما استلهمت منهم شعوب عدة في العالم طرائف منيرة في ثوراتهم، مدعوون الى استلهام بعض مبادىء ثورة مصر، والى رمي عصبياتهم الدينية والفصائلية والحزبية في ميادين فلسطين المختلفة، وصوغ خيارات سياسية جديدة في سبيل التصدي للاحتلال وطرده في نهاية المطاف، وانهاء "الانقسام" المقيت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون